فصل: المسألة الثانية: المحلوف به والحلف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثانية: المحلوف به والحلف:

المحلوف به والحلف إما أن يكون بالله أو بغيره، فإن كان بالله كان موليًا ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء، وهل تجب كفارة اليمين فيه قولان: الجديد وهو الأصح، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تجب كفارة اليمين، والقديم أنه إذا فاء بعد مضي المدة أو في خلال المدة فلا كفارة عليه، حجة القول: والله لا أقربك ثم يقربها، وبين أن يقول: والله لا أكلمك ثم يكلمها وحجة القول القديم قوله تعالى: {فَإِن فَاءوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والاستدلال به من وجهين أحدهما: أن الكفارة لو كانت واجبة لذكرها الله ههنا، لأن الحاجة هاهنا داعية إلى معرفتها، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والثاني: أنه تعالى كما لم يذكر وجوب الكفارة نبه على سقوطها بقوله: {فَإِن فَاءوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والغفران يوجب ترك المؤاخذة وللأولين أن يجيبوا فيقولوا: إنما ترك الكفارة هاهنا لأنه تعالى بينها في القرآن وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر المواضع.
أما قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فهو يدل على عدم العقاب، لكن عدم العقاب لا ينافي وجوب الفعل، كما أن التائب عن الزنا والقتل لا عقاب عليه، ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص، وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال: إن وطئتك فعبدي حر، أو أنت طالق، أو ضرتك طالق، أو ألزم أمرًا في الذمة، فقال: إن وطئتك فلله علي عتق رقبة، أو صدقة، أو صوم، أو حج، أو صلاة، فهل يكون موليًا للشافعي رضي الله عنه فيه قولان: قال في القديم: لا يكون موليًا، وبه قال أحمد في ظاهر الرواية دليله أن الإيلاء معهود في الجاهلية، ثم قد ثبت أن معهود الجاهلية في هذا الباب هو الحلف بالله، وأيضًا روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: من حلف فليحلف بالله، فمطلق الحلف يفهم منه الحلف بالله، وقال في الجديد، وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة العلماء رحمهم الله أنه يكون موليًا لأن لفظ الإيلاء يتناول الكل، وعلق القولين فيمينه منعقدة فإن كان قد علق به عتقًا أو طلاقًا، فإذا وطئها يقع ذلك المتعلق، وإن كان المعلق به التزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج، وفيه أقوال أصحها: أن عليه كفارة اليمين والثاني: عليه الوفاء بما سمى، والثالث: أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء بما سمى، وفائدة هذين القولين أنا إن قلنا إنه يكون موليًا فبعد مضي أربعة أشهر يضيق الأمر عليه حتى يفيء أو يطلق وإن قلنا: لا يكون موليًا لا يضيق عليه الأمر.

.المسألة الثالثة: مدة الإيلاء:

اختلفوا في مقدار مدة الإيلاء على أقوال فالأول: قول ابن عباس أنه لا يكون موليًا حتى يحلف على أن لا يطأها أبدًا والثاني: قول الحسن البصري وإسحق: إن أي مدة حلف عليها كان موليًا وإن كانت يومًا، وهذان المذهبان في غاية التباعد والثالث: قول أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون موليًا حتى يحلف على أنه لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد والرابع: قول الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم: إنه لا يكون مواليًا حتى تزيد المدة على أربعة أشهر وفائدة الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما أنه إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة، وهذه المدة تكون حقًا للزوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزوج بالفيئة أو بالطلاق، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه، وعن أبي حنيفة: إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه. اهـ.

.فروع تتعلق بحكم الآية:

الفرع الأول: إذا حلف أنه لا يقرب زوجته أبدًا أو مدة هي أكثر من أربعة أشهر فهو مول، فإذا مضت أربعة أشهر، يوقف الزوج، ويؤمر بالفيء وهو الرجوع أو الطلاق، وذلك بعد مطالبة الزوجة فإن رجع عما قال بالوطء إن قدر عليه أو بالقول مع العجز عنه، فإن لم يفيء ولم يطلق طلق عليه الحاكم واحدة، وهو قول عمر وعثمان وأبي الدرداء وابن عمر، قال سليمان بن يسار: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقول: يوقف المولي. وذهب إليه سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد. وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال ابن عباس وابن مسعود: إذا مضت مدة أربعة أشهر يقع عليها طلقة بائنة. وبه قال سفيان الثوري وأبو حنيفة وقال سعيد بن المسيب والزهري: يقع عليها طلقة رجعية.
الفرع الثاني: لو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر، فليس بمول بل هو حالف فإن وطئها قبل مضي المدة لزمه كفارة يمين.
الفرع الثالث: لو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر، فليس بمول بعد مضي المدة عند الشافعي لأن بقاء المدة شرط للوقوف، وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق، وقد مضت المدة، وعند أبي حنيفة يكون موليًا ويقع الطلاق بمضي المدة.
الفرع الرابع: مدة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحر والعبد، جميعًا عند الشافعي لأنها مدة ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة وعن مالك وأبي حنيفة تتنصف مدة الإيلاء بالرق غير أن عند أبي حنيفة تنتصف مدة الإيلاء برق المرأة، وعند مالك برق الزوج كما في الطلاق.
الفرع الخامس: إذا وطئ خرج من الإيلاء ويجب عليه كفارة يمين، وهذا قول أكثر العلماء وقيل: لا كفارة عليه لأن الله تعالى وعده المغفرة فقال: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} ومن قال: بوجوب الكفارة عليه، قال: ذلك في إسقاط العقوبة عنه لا في الكفارة. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
باب الْإِيلَاءِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْإِيلَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَلْفُ يَقُولُونَ: آلَى يُؤْلِي إيلَاءً وَأَلِيَّةً؛ قَالَ كَثِيرٌ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ فَهَذَا أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ.
وَقَدْ اُخْتُصَّ فِي الشَّرْعِ بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ الَّذِي يُكْسِبُ الطَّلَاقَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، حَتَّى إذَا قِيلَ آلَى فُلَانٌ مِنْ امْرَأَتِهِ عُقِلَ بِهِ ذَلِكَ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا يَكُونُ بِهِ مُولِيًا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ: أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا لِأَجْلِ الرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُولِيًا إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا عَلَى وَجْهِ الضِّرَارِ وَالْغَضَبِ.
وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ حَالَتْ دُونَ الْجِمَاعِ إيلَاءٌ؛ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَابْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ.
وَالثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ فِي الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ، نَحْوُ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهَا فَيَكُونُ مُولِيًا.
وَقَدْ رَوَى جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: تَزَوَّجْت فَلَقِيت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ فِي حَلْقِهَا شَيْئًا قَالَ: تَاللَّهِ لَقَدْ خَرَجْت وَمَا أُكَلِّمُهَا قَالَ: عَلَيْك بِهَا قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَيَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي أَنَّ الْهِجْرَانَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ هُوَ الْإِيلَاءُ وَالرَّابِعُ: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ إنْ هَجَرَهَا فَهُوَ إيلَاءٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَلِفَ.
فَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حَلِفِهِ عَلَى تَرْكِ جِمَاعِهَا ضِرَارًا وَبَيْنَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الضِّرَارِ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْجِمَاعَ حَقٌّ لَهَا وَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا حَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ حَقِّهَا مِنْ الْجِمَاعِ كَانَ مُولِيًا حَتَّى تَصِلَ إلَى حَقِّهَا مِنْ الْفُرْقَةِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ إلَّا إمْسَاكُهَا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.
وَأَمَّا إذَا قَصَدَ الصَّلَاحَ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ تَكُونَ مُرْضِعَةً فَحَلَفَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا لِئَلَّا يَضُرَّ ذَلِكَ بِالصَّبِيِّ، فَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ مَنْعَ حَقِّهَا وَلَا هُوَ غَيْرُ مُمْسِكٍ لَهَا بِمَعْرُوفٍ فَلَا يَلْزَمُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِيَمِينِهِ حُكْمُ الْفُرْقَةِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ اعْتَبَرَ الضِّرَارَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُذْنِبًا يَقْتَضِي الْفَيْءَ غُفْرَانُهُ.
وَهَذَا عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ شَمِلَتْ الْجَمِيعَ، وَقَاصِدُ الضَّرَرِ أَحَدُ مَنْ شَمِلَهُ الْعُمُومُ، فَرَجَعَ هَذَا الْحُكْمُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءِ حَالِ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي إيجَابِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.
وَأَيْضًا سَائِرُ الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا يَتَعَلَّقَانِ بِالْيَمِينِ.
وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الرَّجْعَةِ عَلَى وَجْهِ الضِّرَارِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْجَمِيعِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ إذَا قَصَدَ ضِرَارَهَا بِيَمِينٍ عَلَى الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ فَلَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} لَا خِلَافَ أَنَّهُ قَدْ أَضْمَرَ فِيهِ الْيَمِينَ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ جِمَاعِهَا مُولٍ، فَتَرْكُ الْجِمَاعِ مُضْمَرٌ فِي الْآيَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ فَأَثْبَتْنَاهُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى إضْمَارِهِ فِي الْآيَةِ فَلَمْ يُضْمِرْهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَيْءِ هُوَ الْجِمَاعُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ فِيهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُضْمَرَ فِي قَوْلِهِ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} هُوَ الْجِمَاعُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَنَّ الْهِجْرَانَ يُوجِبُ الطَّلَاقَ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ شَاذٌّ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إذَا حَلَفَ ثُمَّ هَجَرَهَا مُدَّةَ الْإِيلَاءِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَالْأَلِيَّةُ الْيَمِينُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَهِجْرَانُهَا لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ.
وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ فِي خُلُقِهَا سُوءٌ، فَكَانَ يَهْجُرُهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهَا وَلَا يَرَى ذَلِكَ إيلَاءً.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ بَعْدَهُمْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي إذَا حَلَفَ عَلَيْهَا يَكُونُ مُولِيًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: إذَا حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَكَمِ وَقَتَادَةَ وَحَمَّادٍ: أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا، إنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ مُولٍ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ، وَإِنْ قَرِبَهَا فِي غَيْرِهِ قَبْلَ الْمُدَّةِ سَقَطَ الْإِيلَاءُ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ وَفِيهَا امْرَأَتُهُ وَمِنْ أَجْلِهَا حَلَفَ فَهُوَ مُولٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وَالْإِيلَاءُ هُوَ الْيَمِينُ وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ تَرْكَ جِمَاعِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ لَا يُكْسِبُهُ حُكْمَ الْإِيلَاءِ، وَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَمَضَتْ مُدَّةُ الْيَمِينِ كَانَ تَارِكًا لِجِمَاعِهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ التَّرَبُّصُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ وَتَرْكُ جِمَاعِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إيجَابِ الْبَيْنُونَةِ، وَمَا دُونَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يُكْسِبُهُ حُكْمَ الْبَيْنُونَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَهُ تَرَبُّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ إيجَابُ الْفُرْقَةِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَارِكِ جِمَاعِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ فَلَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ إنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ أَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا فَلَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ كُلُّ يَمِينٍ فِي زَوْجَةٍ يَمْنَعُ جِمَاعَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا يَحْنَثُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَهَذِهِ الْيَمِينُ لَمْ تَمْنَعْهُ جِمَاعَهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى جِمَاعِهَا بِغَيْرِ حِنْثٍ بِأَنْ يَقْرَبَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَيْتِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ أَيْضًا فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ: هُوَ مُولٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا فِي الْمُدَّةِ حَتَّى مَضَتْ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ.
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَوَقَّتَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَمَنْ كَانَ إيلَاؤُهُ دُونَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُولٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِمُولٍ حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا قَوْلٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فَجَعَلَ هَذِهِ الْمُدَّةَ تَرَبُّصًا لِلْفَيْءِ فِيهَا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ التَّرَبُّصَ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ جِمَاعِهَا بِالْيَمِينِ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَكْسَبَهُ ذَلِكَ حُكْمَ الْإِيلَاءِ الطَّلَاقَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَبَيْنَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا؛ إذْ لَيْسَ لَهُ تَرَبُّصُ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُولِيًا فِي حَلِفِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَأَقَلَّ مِنْهَا وَأَكْثَرَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَلِفِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَا مَا دُونَهَا بِدَلَالَةٍ وَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَمَا فَوْقَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٍ لَمْ يَصِحَّ تَعَلُّقُ الطَّلَاقِ بِهَا؛ لِأَنَّك تُوقِعُ الطَّلَاقَ بِمُضِيِّهَا وَلَا إيلَاءَ هُنَاكَ.
قِيلَ لَهُ: لَا يَمْتَنِعُ؛ لِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ إذَا كَانَ سَبَبًا لِلْإِيقَاعِ لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ بَقَاءِ الْيَمِينِ فِي حَالِ وُقُوعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُضِيَّ الْحَوْلِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يَكُونَ الْحَوْلُ مَوْجُودًا فِي حَالِ الْوُجُوبِ بَلْ يَكُونُ مَعْدُومًا مُنْقَضِيًا؟
وَأَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَتْ هَذِهِ يَمِينًا مَعْقُودَةً؟ فَإِنْ كَلَّمَتْهُ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ، وَقَدْ انْحَلَّتْ فِيهَا الْيَمِينُ، وَبَطَلَتْ كَذَلِكَ مُضِيُّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَمْ يَمْتَنِعْ وُقُوعُهُ وَالْيَمِينُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْفَيْءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الرُّجُوعُ إلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} يَعْنِي حَتَّى تَرْجِعَ مِنْ الْبَغْيِ إلَى الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ أَمْرُ اللَّهِ.
وَإِذَا كَانَ الْفَيْءُ الرُّجُوعَ إلَى الشَّيْءِ اقْتَضَى ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا عَلَى وَجْهِ الضَّرَرِ ثُمَّ قَالَ لَهَا: قَدْ فِئْت إلَيْك وَقَدْ أَعْرَضْت عَمَّا عَزَمْت عَلَيْهِ مِنْ هِجْرَانِ فِرَاشِك بِالْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَاءَ إلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ عَاجِزًا.
هَذَا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَهُ الْوُصُولُ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا الْجِمَاعَ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ آلَى وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ هِيَ رَتْقَاءُ أَوْ صَغِيرَةٌ أَوْ هُوَ مَجْبُوبٌ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا فَاءَ إلَيْهَا بِلِسَانِهِ وَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعُذْرُ قَائِمٌ فَذَلِكَ فَيْءٌ صَحِيحٌ وَلَا تَطْلُقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا الْجِمَاعَ.
وَقَالَ زُفَرُ: فَيْؤُهُ بِالْقَوْلِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا آلَى وَهِيَ صَغِيرَةٌ لَا تُجَامَعُ مِثْلُهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا حَتَّى تَبْلُغَ الْوَطْءَ، ثُمَّ يُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُذْ بَلَغَتْ الْوَطْءَ وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُولِي إذَا وَقَفَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ ثُمَّ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ: إنَّهُ إنْ لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا وَلَا رَجْعَةَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سِجْنٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ ارْتِجَاعَهُ إيَّاهَا ثَابِتٌ عَلَيْهَا وَإِنْ مَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَقَفَ أَيْضًا.
قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ مَالِكٌ: إنْ مَضَى الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ لَمْ يُوقَفْ حَتَّى يَبْرَأَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ مَا لَا يُطِيقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ غَائِبٌ إنْ شَاءَ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ جَائِزَةٌ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ.
وَقَالَ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ الثَّوْرِيِّ فِي الْمُولِي إذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ: فَلْيَفِئْ بِلِسَانِهِ، يَقُولُ: قَدْ فِئْت إلَيْك، يَجْزِيهِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ فَأَشْهَدَ عَلَى الْفَيْءِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ فَقَدْ فَاءَ، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَوْ حَاضَتْ أَوْ طَرَدَهُ السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ يُشْهِدُ عَلَى الْفَيْءِ وَلَا إيلَاءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إذَا مَرِضَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ يُوقَفُ كَمَا يُوقَفُ صَحِيحٌ فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ، وَلَا يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِحَّ.
وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إذَا آلَى الْمَجْبُوبُ فَفَيْؤُهُ بِلِسَانِهِ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: لَا إيلَاءَ عَلَى الْمَجْبُوبِ قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً فَآلَى مِنْهَا اُسْتُؤْنِفَتْ بِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَمَا تَصِيرُ إلَى حَالٍ يُمْكِنُ جِمَاعُهَا، وَالْمَحْبُوسُ يَفِيءُ بِاللِّسَانِ، وَلَوْ أَحْرَمَ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا الْجِمَاعَ، وَلَوْ آلَى وَهِيَ بِكْرٌ فَقَالَ لَا أَقْدِرُ عَلَى افْتِضَاضِهَا أُجِّلَ أَجَلَ الْعِنِّينِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جِمَاعِهَا فِي الْمُدَّةِ كَانَ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ قَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهَذَا قَدْ فَاءَ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ الرُّجُوعُ إلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ قَدْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ وَطْئِهَا بِالْقَوْلِ وَهُوَ الْيَمِينُ، فَإِذَا فَاءَ بِالْقَوْلِ فَقَالَ قَدْ فِئْت إلَيْك فَقَدْ رَجَعَ عَمَّا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ إلَى ضِدِّهِ، فَتَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ؛ وَأَيْضًا لَمَّا تَعَذَّرَ جِمَاعُهَا قَامَ الْقَوْلُ فِيهِ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبَيْنُونَةِ.
وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْوَطْءِ بِالْإِحْرَامِ وَالْحَيْضِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ، أَمَّا الْإِحْرَامُ فَلِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ وَلَا يُسْقِطُ حَقَّهَا مِنْ الْوَطْءِ، وَأَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْمُولِي تَرَبُّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُودِ الْحَيْضِ فِيهَا؛ وَاتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ فِي حَالِ إمْكَانِ الْجِمَاعِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مَعَ إمْكَانِ وَطْئِهَا، وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ إمْكَانِهِ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْرَامِ وَالظِّهَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْوَطْءِ بِتَحْرِيمِهِ لَا بِالْعَجْزِ وَتَعَذُّرِهِ وَلِأَنَّ حَقَّهَا بَاقٍ فِي الْجِمَاعِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَبَانَهَا بِخُلْعٍ وَهُوَ مُولٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ التَّحْرِيمُ الْوَاقِعُ مُوجِبًا لِجَوَازِ فَيْئِهِ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَوْ وَطِئَهَا فِي هَذَا الْحَالِ بَطَلَ الْإِيلَاءُ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ لَا يُسْقِطُ الْيَمِينَ فَوَاجِبٌ بَقَاؤُهَا؛ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْفَيْءِ بِالْقَوْلِ فِي إسْقَاطِهَا.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَيْرُ وَاجِبٍ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ بَقَاءُ الْيَمِينِ، وَبُطْلَانُ الْإِيلَاءِ مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ كَانَتْ الْيَمِينُ بَاقِيَةً لَوْ وَطِئَهَا حَنِثَ وَلَمْ يَلْحَقْهَا بِهَا طَلَاقٌ وَإِنْ تَرَكَ وَطْأَهَا؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك لَمْ يَكُنْ إيلَاءً، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا كَانَتْ الْيَمِينُ بَاقِيَةً لَوْ وَطِئَهَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَكُونُ مُولِيًا فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، فَلَيْسَ بَقَاءُ الْيَمِينِ إذًا عِلَّةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ، فَجَازَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا بِلِسَانِهِ، فَيَسْقُطُ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَيَبْقَى حُكْمُ الْحِنْثِ بِالْوَطْءِ.
وَإِنَّمَا شَرَطَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ وُجُودَ الْعُذْرِ فِي الْمُدَّةِ كُلِّهَا، وَمَتَى كَانَ الْوَطْءُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ عِنْدَهُمْ إلَّا الْجِمَاعَ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْفَيْءَ بِالْقَوْلِ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَطْءِ عِنْدَ عَدَمِهِ لِئَلَّا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَمَتَى قَدَرَ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ بَطَلَ الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ، كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا أُقِيمَ تَيَمُّمُهُ مَقَامَ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ كَانَ مَتَى وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَعَادَ إلَى أَصْلِ فَرْضِهِ سَوَاءٌ كَانَ وُجُودُهُ لِلْمَاءِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي آخِرِهَا، كَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ تُبْطِلُ حُكْمَ الْفَيْءِ بِالْقَوْلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا فَاءَ بِالْقَوْلِ لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الْمُدَّةِ ثُمَّ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعُذْرُ قَائِمٌ فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ مِنْهَا، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ حَلَفَ عَلَى أَجْنَبِيَّةٍ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَيَكُونُ يَمِينُهُ بَاقِيَةً؛ إنْ قَرِبَهَا حَنِثَ وَإِنْ تَرَكَ جِمَاعَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ تَطْلُقْ.
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَفِئْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَالُوا: إنَّهَا تَبِينُ بِتَطْلِيقَةٍ.
وَاخْتُلِفَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَرُوِيَ عَنْهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ، وَرُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ، قَالُوا: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ.
وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، فَقَالُوا: إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ؛ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ: إنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَفِيءَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَيَكُونُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً إذَا طَلَّقَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ حَتَّى يَطَأهَا فِي الْعِدَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ عَفَتْ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُدَّةِ كَانَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَطْلُبَ وَلَا يُؤَجِّلُ فِي الْجِمَاعِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمٍ وَمَنْ تَابَعَهُمَا أَنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الَّتِي حَصَلَ عَلَيْهَا اخْتِلَافُ السَّلَفِ، وَلَوْلَا احْتِمَالُهُ لَهَا لَمَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَأْوِيلُ اللَّفْظِ الْمُؤَوَّلِ عَلَى مَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ؛ وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عَالِمِينَ بِمَا يَحْتَمِلُ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى احْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ قَدْ كَانَ شَائِعًا مُسْتَفِيضًا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ظَهَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى تَوَسُّعِ الِاجْتِهَادِ فِي حَمْلِهِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ احْتَجْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ، فَوَجَدْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ قَالَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ قَبْلَ الْفَيْءِ إلَيْهَا فَسَمَّى تَرْكَ الْفَيْءِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ شَرْعًا أَوْ لُغَةً، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ كَانَ فَحُجَّتُهُ ثَابِتَةٌ وَاعْتِبَارُ عُمُومِهِ وَاجِبٌ؛ إذْ كَانَتْ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ إلَّا تَوْقِيفًا.
وَإِذَا كَانَ هَكَذَا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي الْمُولِي أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إمَّا الْفَيْءُ وَإِمَّا عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَيْءُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَأَنَّهُ فَائِتٌ بِمُضِيِّهَا فَتَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَيْءُ بَاقِيًا لَمَا كَانَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ عَزِيمَةً لِلطَّلَاقِ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْعَزِيمَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى الشَّيْءِ، تَقُولُ: عَزَمْت عَلَى كَذَا أَيْ عَقَدْت قَلْبِي عَلَى فِعْلِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ أَوْلَى بِمَعْنَى عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ مِنْ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي إيقَاعَ طَلَاقٍ بِالْقَوْلِ إمَّا أَنْ يُوقِعَهُ الزَّوْجُ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوَقْفِ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِتَرْكِهِ الْفَيْءَ فِيهَا أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ إيقَاعًا مُسْتَأْنَفًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ عَزِيمَةً، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَزِيدَ فِي الْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا.
وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} اقْتَضَى ذَلِكَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ مِنْ فَيْءٍ أَوْ عَزِيمَةِ طَلَاقٍ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَالْفَيْءُ إنَّمَا هُوَ مُرَادٌ فِي الْمُدَّةِ مَقْصُورُ الْحُكْم عَلَيْهَا؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْفَيْءُ عَقِيبَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْفَيْءَ عَقِيبَ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْفَيْءَ لِمَنْ لَهُ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْفَيْءِ مَقْصُورًا عَلَى الْمُدَّةِ ثُمَّ فَاتَ بِمُضِيِّهَا وَجَبَ حُصُولُ الطَّلَاقِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْفَيْءَ وَالطَّلَاقَ جَمِيعًا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْفَيْءُ فِي الْمُدَّةِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى صِحَّةِ الْفَيْءِ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ فِيهَا، فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ فَاءُوا فِيهَا وَكَذَلِكَ قُرِئَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ فَحَصَلَ الْفَيْءُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَتَمْضِي الْمُدَّةُ بِفَوْتِ الْفَيْءِ، وَإِذَا فَاتَ الْفَيْءُ حَصَلَ الطَّلَاقُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا} فَعَطَفَ بِالْفَاءِ عَلَى التَّرَبُّصِ فِي الْمُدَّةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ مَشْرُوطٌ بَعْدَ التَّرَبُّصِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَأَنَّهُ مَتَى مَا فَاءَ فَإِنَّمَا عَجَّلَ حَقَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ تَعْجِيلُهُ كَمَنْ عَجَّلَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا.
قِيلَ لَهُ: لَوْلَا أَنَّ الْفَيْءَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا صَحَّ وُجُودُهُ فِيهَا وَكَانَ يَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا الْفَيْءِ إلَى فَيْءٍ بَعْدَ مُضِيِّهَا، فَلَمَّا صَحَّ الْفَيْءُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ بِالْآيَةِ، وَلِذَلِكَ بَطَلَ مَعَهُ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ.
ثُمَّ قَوْلُك إنَّ الْمُرَادَ بِالْفَيْءِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ الْمُدَّةِ مَعَ قَوْلِك: إنَّ الْفَيْءَ فِي الْمُدَّةِ صَحِيحٌ كَهُوَ بَعْدَهَا تَبْطُلُ مَعَهُ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ مُنَاقَضَةٌ مِنْك فِي اللَّفْظِ، كَقَوْلِك: إنَّهُ مُرَادٌ فِي الْمُدَّةِ غَيْرُ مُرَادٍ فِيهَا، وَقَوْلِك إنَّهُ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إذَا عَجَّلَهُ لَا يُزِيلُ عَنْك مَا وَصَفْنَا مِنْ الْمُنَاقَضَةِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يُخْرِجُهُ التَّأْجِيلُ مِنْ حُكْمِ اللُّزُومِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ مِلْكُهُ مِنْ الْأَثْمَانِ عَلَى وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُكَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَلْزَمُك إلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا؟ وَالتَّأْجِيلُ الَّذِي ذَكَرْت لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ وَاجِبًا مِلْكًا لِلْبَائِعِ، وَمَتَى عَجَّلَهُ وَأَسْقَطَ الْأَجَلَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مُوجَبِ الْعَقْدِ؛ إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ فَوَاتَ الْفَيْءِ يُوجِبُ الطَّلَاقَ، وَإِذَا كَانَ الْفَيْءُ مُرَادًا فِي الْمُدَّةِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ فَوَاتُهُ فِيهَا مُوجِبًا لِلطَّلَاقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} فِيهِ ضَمِيرُ الْمُولِي الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ إيقَاعُ الْفَيْءِ عَقِيبَ الْيَمِينِ.
وَدَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ قوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَلَمَّا كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ وَاقِعَةً بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فِي تَرَبُّصِ الْأَقْرَاءِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ تَرَبُّصِ الْإِيلَاءِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّا لَوْ وَقَفْنَا الْمُولِي لَحَصَلَ التَّرَبُّصُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ، وَلَوْ غَابَ الْمُولِي عَنْ امْرَأَتِهِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ وَلَمْ تَرْفَعْهُ الْمَرْأَةُ وَلَمْ تُطَالِبْ بِحَقِّهَا لَكَانَ التَّرَبُّصُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِوَقْتٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ وَاقِعَةً بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فِي تَرَبُّصِ الْأَقْرَاءِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْإِيلَاءِ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا ذِكْرُ التَّرَبُّصِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُدَّتَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُدَّتَيْنِ وَاجِبَةٌ عَنْ قَوْلِهِ وَتَعَلَّقَ بِهَا حُكْمُ الْبَيْنُونَةِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَتْ فِي إحْدَاهُمَا بِمُضِيِّهَا كَانَتْ الْأُخْرَى مِثْلَهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: تَأْجِيلُ الْعِنِّينِ حَوْلًا بِالِاتِّفَاقِ، وَتَخْيِيرُ امْرَأَتِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فِي الْحَوْلِ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْأَجَلِ؛ كَذَلِكَ مَا ذَكَرْت مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ إيجَابُ الْوَقْفِ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا يُوجِبُ زِيَادَةً فِيهَا.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ تَقْدِيرُ أَجَلِ الْعِنِّينِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ حُكْمُهُ مِنْ قَوْلِ السَّلَفِ؛ وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ يُؤَجَّلُ حَوْلًا هُمْ الَّذِينَ خَيَّرُوهَا بِمُضِيِّهِ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهَا وَلَمْ يُوقِعُوا الطَّلَاقَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَمُدَّةُ الْإِيلَاءِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ التَّخْيِيرِ مَعَهَا، فَالزَّائِدُ فِيهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَجَلَ الْعِنِّينِ إنَّمَا يُوجِبُ لَهَا الْخِيَارَ بِمُضِيِّهِ، وَأَجَلُ الْمُولِي عِنْدَك إنَّمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفَيْءَ، فَإِنْ قَالَ: أَفِيءُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ قَالَ الْعِنِّينُ: أَنَا أُجَامِعُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِيَارِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْإِيلَاءُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَةٍ عَنْهُ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ.
قِيلَ لَهُ: وَلَيْسَ اللِّعَانُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا كِنَايَةٍ عَنْهُ، فَيَجِبُ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ أَنْ لَا تُوقَعَ الْفُرْقَةُ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ.
وَلَا يَلْزَمُنَا عَلَى أَصْلِنَا؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ الْفُرْقَةِ؛ إذْ كَانَ قَوْلُهُ لَا أَقْرَبُك يُشْبِهُ كِنَايَةَ الطَّلَاقِ؛ وَلَمَّا كَانَ أَضْعَفَ أَمْرًا مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إلَّا بِانْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُضِيُّ الْمُدَّةِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَقُولُهُ؛ إذْ قَدْ وَجَدْنَا مِنْ الْكِنَايَاتِ مَا لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ خَيَّرْتُك وَقَوْلُ: أَمْرُك بِيَدِك فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهَا.
فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِيلَاءِ: إنَّهُ كِنَايَةٌ، إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ حَالًا مِنْ سَائِرِ الْكِنَايَاتِ، فَلَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ بِاللَّفْظِ دُونَ انْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ.
فَأَمَّا اللِّعَانُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَعْنَى الْكِنَايَاتِ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ إيَّاهَا بِالزِّنَا وَتَلَاعُنَهُمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْبَيْنُونَةِ بِحَالٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ مُخَالِفٌ لِلْإِيلَاءِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَالْإِيلَاءُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِغَيْرِ الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْفُرْقَةِ.
وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْعِنِّينَ أَيْضًا لِأَنَّ تَأْجِيلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَاكِمِ، وَالْإِيلَاءُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُكْمِ الْفُرْقَةِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَنَّهُ لَمَّا قال: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا مَسْمُوعًا وَهُوَ الطَّلَاقُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ السَّمِيعَ لَا يَقْتَضِي مَسْمُوعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا وَلَا مَسْمُوعَ.
وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَلَيْسَ هُنَاكَ قَوْلٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا وَعَلَيْكُمْ بِالصَّمْتِ» وَأَيْضًا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ قَوْله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَامِعٌ لِمَا تَكَلَّمَ بِهِ عَلِيمٌ بِمَا أَضْمَرَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ يُثْبِتُونَ هُنَاكَ مَعَانِيَ أُخَرَ غَيْرَ مَذْكُورَةٍ فِي الْآيَةِ، إذْ كَانَتْ الْآيَةُ إنَّمَا اقْتَضَتْ أَحَدَ شَيْئَيْنِ مِنْ فَيْءٍ أَوْ طَلَاقٍ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ مُطَالَبَةِ الْمَرْأَةِ وَلَا وَقْفُ الْقَاضِي الزَّوْجَ عَلَى الْفَيْءِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَلَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نُلْحِقَ بِالْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا وَلَا أَنْ نَزِيدَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَقَوْلُ مُخَالِفِينَا يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ وَلَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ، وَقَوْلُنَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِيهَا، فَكَانَ أَوْلَى.
وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا حَكَمَ فِي الْإِيلَاءِ بِهَذَا الْحُكْمِ لِإِيصَالِ الْمَرْأَةِ إلَى حَقِّهَا مِنْ الْجِمَاعِ أَوْ الْفُرْقَةِ، وَهُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ يَقُولُ: إنْ لَمْ يَفِئْ أَمَرَهُ بِالطَّلَاقِ، فَإِذَا طَلَّقَ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، فَإِنْ جَعَلَهُ بَائِنًا فَإِنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ بَائِنًا عِنْدَ أَحَدٍ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ جَعَلَهُ رَجْعِيَّا فَلَا حَظَّ لِلْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَتَى شَاءَ رَاجَعَهَا فَتَكُونُ امْرَأَتَهُ كَمَا كَانَتْ، فَلَا مَعْنَى لِإِلْزَامِهِ طَلَاقًا لَا تَمْلِكُ بِهِ الْمَرْأَةُ بُضْعَهَا وَتَصِلُ بِهِ إلَى حَقِّهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ لَا يَصِحُّ رَجْعَتُهُ حَتَّى يَطَأَهَا فِي الْعِدَّةِ فَقَوْلٌ شَدِيدُ الِاخْتِلَالِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ: إذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ فِيهِ مَوْقُوفَةً عَلَى مَعْنًى غَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إذَا مَنَعَهُ الرَّجْعَةَ إلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ فَقَدْ نَفَى أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا، وَهُوَ لَوْ رَاجَعَهَا لَمْ تَكُنْ رَجْعَةً.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ الْوَطْءُ بَعْدَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ وَلَا تَقَعُ الرَّجْعَةُ فِيهِ بِنَفْسِ الْوَطْءِ، فَكَيْفَ يُبَاحُ لَهُ وَطْؤُهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ تَقَعُ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ سَائِرَ الْفُرَقِ الْحَادِثَةِ فِي الْأُصُولِ بِغَيْرِ تَصْرِيحٍ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ، مِنْ ذَلِكَ فُرْقَةُ الْعِنِّينِ وَاخْتِيَارُ الْأَمَةِ وَرِدَّةُ الزَّوْجِ وَاخْتِيَارُ الصَّغِيرَيْنِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَصْرِيحٌ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَائِنًا.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إيلَاءِ الذِّمِّيِّ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: إذَا حَلَفَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَهُوَ مُولٍ، وَإِنَّ حَلَفَ بِصَدَقَةٍ أَوْ حَجٍّ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَإِنَّ حَلَفَ بِاَللَّهِ كَانَ مُولِيًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ مُولِيًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إيلَاءُ الذِّمِّيِّ صَحِيحٌ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْإِيلَاءِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَلْزَمُهُ، فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ يَصِحَّ إيلَاءُ الذِّمِّيِّ إذَا كَانَ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ كَمَا يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ؛ وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ فَلَا يَلْزَمُهُ إذَا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِإِيجَابِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ هَذِهِ الْقُرَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ مُولِيًا بِحَلِفِهِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ؛ إذْ لَا يَلْزَمُهُ بِالْجِمَاعِ شَيْءٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ؛ وقَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} يَقْتَضِي عُمُومَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلَكِنَّا خَصَّصْنَاهُ بِمَا وَصَفْنَا.
وَأَمَّا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَهُ مُولِيًا وَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ حُكْمَ؛ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَعَلَّقَ عَلَى الْكَافِرِ كَهِيَ عَلَى الْمُسْلِمِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ إظْهَارَ الْكَافِرِ تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبِيحَةِ يُبِيحُ أَكْلَهَا كَالْمُسْلِمِ، وَلَوْ سَمَّى الْكَافِرُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ تُؤْكَلْ؛ فَثَبَتَ حُكْمُ تَسْمِيَتِهِ وَصَارَ كَالْمُسْلِمِ فِي حُكْمِهَا، فَكَذَلِكَ الْإِيلَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكَفَّارَةُ، وَالْآخَرُ: الطَّلَاقُ؛ فَثَبَتَ حُكْمُ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الطَّلَاقِ.
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْإِيلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِحَلِفِهِ بِالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا؛ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ إذَا كَانَ هُوَ الْحَلِفَ وَهُوَ حَالِفٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا يَصِلُ إلَى جِمَاعِهَا إلَّا بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ صَدَقَةٍ يَلْزَمُهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُولِيًا كَحَلِفِهِ بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَنْتَظِمُ الْجَمِيعَ؛ إذْ كَانَ مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ مُولٍ.
فَصْلٌ وَمِمَّا تُفِيدُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ، فَقَالَ: لَمَّا حُكِمَ لِلْمُولِي بِأَحَدِ حُكْمَيْنِ مِنْ فَيْءٍ أَوْ عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ، فَلَوْ جَازَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ لَسَقَطَ الْإِيلَاءُ بِغَيْرِ فَيْءٍ وَلَا عَزِيمَةِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ حَنِثَ لَا يَلْزَمُهُ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ، وَمَتَى لَمْ يَلْزَمْ الْحَالِفَ بِالْحِنْثِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، وَفِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إسْقَاطُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ بِغَيْرِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. اهـ.